كوابح الاقتصاد الأميركي
إن الشيء الذي يعوق نمو الاقتصاد الأميركي -كما يقول لنا الحكماء- هو أننا لم نعد نبتكر مثلما كنا نفعل من قبل. وعلى رغم أن إمكانات الحواسيب الشخصية، والإنترنت قد مثلت تطوراً عظيماً، إلا أن تأثيرها على حياتنا، وعلى دخولنا، يتضاءل عند مقارنته بالتأثير الذي أحدثته الطاقة الكهربائية، والسيارات، والطائرات، على حياة أسلافنا في القرن العشرين.
وكما كتب الصحفي "ستيف بيرلشتاين" في عموده الأسبوعي بصحيفة "واشنطن بوست"، فإن هناك في الوقت الراهن رؤى تجد لها قبولاً وانتشاراً متناميّاً، وعلى وجه الخصوص منها تلك الرؤية التي عبر عنها "تايلر كاوين" أستاذ الاقتصاد في جامعة "جورج مايسون" ومؤلف كتاب: "الكساد العظيم"، التي ترى أن ثبات الدخول، وتجمدها الذي عاني منه الأميركيون في العقود الثلاثة الماضية كان سببه في الأساس تقلص الجهد الإبداعي الأميركي، مقارنة بما كان عليه الحال في معظم عقود القرن العشرين.
وعلى رغم أن نظرية "كاوين" لها وجاهتها إلا أنها مع ذلك تخفق في تفسير السبب الذي جعل أمماً أخرى ذات اقتصادات متقدمة، مثل ألمانيا وفرنسا، لا تعاني من نفس النوعية من التحولات الاجتماعية التي عانت منها الولايات المتحدة الأميركية خاصة، وعلى وجه الخصوص تلك المتعلقة بإعادة توزيع ناتج الثروة الأميركية لمصلحة الطبقات الأعلى في المجتمع الأميركي، مما أدى إلى زيادة ثروات من هم أغنياء في الأصل، في الوقت الذي ظلت فيه مداخيل الطبقات الأقل، إما ثابتة أو متآكلة. وفي الوقت نفسه لم يحدث شيء مماثل في دول الاقتصادات المتقدمة، على رغم أن سجل تلك الدول في الابتكار والإبداع ليس أفضل من السجل الأميركي بأي حال من الأحوال (لأنه وفق بعض الإحصائيات أسوأ منه).
ومع اعترافه بصحة ذلك يصر "كاوين" على القول إن فجوة الابتكار هي المجرم الحقيقي. ففي عموده "الرؤية الاقتصادية" بصحيفة "نيويورك تايمز" يقول "كاوين": "منذ عقد السبعينيات من القرن الماضي ونحن نأتي بأفكار جديدة لا تحقق مصلحة سوى فئة محدودة من الناس، من الناحية الاقتصادية"، وللتدليل على صحة طرحه يستطرد: "خلال السنوات من 1947 إلى1973 تضاعف متوسط الدخل الفردي (المعدل حسب نسبة التضخم) أما منذ عام 1973 وحتى الآن، فلم يزد هذا المتوسط إلا بنسبة 22 في المئة، بل إن هذه الزيادة الطفيفة كانت، إلى حد كبير، نتيجة لدخول المزيد من أفراد الأسر الأميركية لسوق العمل".
وثبات متوسط الدخل الفردي لدى الغالبية العظمى من الأميركيين طيلة كل تلك السنين، كان في نظر "كاوين" نتيجة محتمة "لغياب الإبداع على مستويات كبيرة مثل مستوى خطوط تجميع السيارات في مصانع هنري فورد".
وأضاف "كاوين" مشيراً إلى ذلك في العمود المذكور: "لا يمكننا توجيه اللوم لأحد ما على وجه الخصوص.. وحتى يعود العلم مجدداً كي يكون له دوره على مستويات حياتنا اليومية المختلفة، فإن المشكلة السياسية الرئيسية التي سنظل نعاني منها هي أن نتعلم كيف يمكننا أن نعيش وفقاً لمواردنا وإمكانياتنا الذاتية".
ولكن.. هل غياب الخيال والإبداع المغير لمصير العالم هو حقاً الذي يقف وراء الركود في المداخيل الذي عانى منه معظم الأميركيين -باستثناء الأكثر ثراء منهم، الذين لا يزيد عددهم عن عشرة في المئة- على مدى الخمسة وثلاثين عاماً الماضية؟ يكتسب هذا السؤال وجاهته، خصوصاً إذا ما عرفنا أن ذلك قد حدث في الوقت الذي زاد فيه متوسط دخلنا القومي، كما ارتفعت إنتاجيتنا كثيراً.
إن الفارق بين أميركا ما قبل عام 1973 وأميركا ما بعد هذا العام هو أن المنافع المترتبة على النمو الاقتصادي تم اقتسامها بين الأميركيين بشكل عادل إلى حد كبير في السنوات التي سبقت ذلك العام، أما في السنوات التي تلته، فقد كانت تلك المنافع تذهب في معظم الأحوال إلى المستويات الأعلى في المجتمع الأميركي، وخصوصاً أولئك الموجودين على القمة.
وخلال الفترة ما بين 1947 و1973، ووفقاً لما جاء في تقرير "حالة أميركا العاملة" الصادر عن معهد "إيكونوميك بوليسي" ونشر هذا الأسبوع، فإن مداخيل العشرين في المئة من الأميركيين الأكثر فقراً زادت بنسبة 117 في المئة كما ارتفعت مداخيل العشرين في المئة الممثلين للطبقة الوسطى 104 في المئة، والعشرين في المئة الأكثر غنى، زادت بنسبة 89 في المئة.
وخلال الفترة ما بين 1973- 2000 زاد دخل خمس السكان الأكثر فقراً والأقرب من قاع المجتمع بنسبة 9 في المئة فقط. وزادت مداخيل خمس عدد سكان الممثلين للطبقة الوسطى بنسبة 23 في المئة. أما خمس السكان الأكثر ثراء فقد زادت مداخيلهم بنسبة 62 في المئة.
ومنذ عام 2000 وحتى الآن ازداد نصيب الفئة الأكثر ثراء بشكل ملحوظ. فذلك الجزء من الدخل القومي الذي يذهب إلى الشريحة الأكثر ثراءً بين الأميركيين، التي تمثل 1 في المـئة فقط من التعداد العام، وصل إلى 23.5 في المئة، في حين أن ذلك النصيب لم يكن يزيد عن عشرة في المئة فقط في بداية السبعينيات من القرن الماضي.
وما يمكن قوله باختصار بناء على كل ذلك، هو أن الأميركيين قد فقدوا قدراً كبيراً من القوة لمصلحة المؤسسات الكبرى والنخبة المالية الغنية. وحتى يتمكن الأميركيون العاديون من استعادة تلك القوة مجدداً، فإن كافة الابتكارات في العالم لن تنجح وحدها في استعادة نصيبهم العادل من الثروة التي يساهمون في خلقها، بل لابد من وجود إرادة سياسية تسعى من أجل ذلك.
هارولد مايرسون
كاتب ومحلل سياسي أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبرج نيوز سيرفيس"